- سيدى .. انا سمير ابن تفيدة كما احب ان ادعو نفسى عندما اختلى بها ، فمنذ صغرى وأنا على علم بقصة تسميتى الطريفة على حد تعبير أمى ، فلقد اختارت لى اسم الاب ليذكرها بحب المراهقة ، ورفضت حتى أن تذكر اسم أبى والذى لم أعلمه حتى الآن ، فأنا فى الاوراق الرسمية سمير أحمد ابراهيم ، طبيب بشرى ، تجاوزت الاربعين مما تسمى السنوات ، عازب ، أعمل فى مستشفى حكومى ساعتين فى الصباح وفى شبه مستشفى خاصة باقى اليوم ، أما فى الحقيقة فأنا سمير الذى لا يعرف والده أو حتى اسمه ، فلقد كانت والدتى من رواد جيلها فقد انجنبتنى من علاقة غير شرعية ، ولكنها تصر على أنها زواج عرفى كما يحلوا لشبابنا المتعلم أن يطلق عليه ، أنا ايضا لست بطبيب بشرى فرغم تخرجى كطبيب وقيدى بالنقابة وكل تلك الاجراءات الرسمية الا اننى لا اعتقد باقترابى ولو من بعيد من مهنة الطب التى احببتها والتى حلمت منذ صغرى بامتهانها ، ولكنى ومنذ أول عام لى فى الجامعة اصطدمت بقوة مستوانا التعليمى وخصوصا الاكاديمى منه ، فالطلبة كما يقولون تأكل الكتب خلال العام ثم تجترها فى نهايته ، فى البداية كنت أحرص على حفظ كل ما يمر بى فأنا كما يقال فى مرحلة الاستيعاب والاعداد لتكوين طبيب المستقبل ، ولكن مع وجود هذا الكم الهائل من المعلومات والتى يفترض حفظها وبدون ربطها بأى تطبيق عملى وجدتنى الجأ الى طريقة الفطنين من الطلبة ، أوراق الدروس ما دمت لا تقدر على الدفع ، ومصاحبة ابنة الدكتور دكتور الفلانى مادمت لا تربطك به قرابة وذلك لتنضم الى فئة المرضى عنهم ، وحل اجبارى فى بعض الاحيان وهو سرقة أى احد لتوفير ثمن درس خاص عند من لا يرحم من السادة اعضاء التدريس ، ففى احيان كثيرة أجد اناس مثلى لا يعرفوا ابائهم
- لم تكن فترة الدراسة فقط هى السبب لانكارى لكونى طبيب ، فعندما التحقت بالتدريب ثم العمل بالمستشفى وجدت ان عملى ادارى بالدرجة الاولى ، ليس بسبب الاجراءات الروتينية أو بسبب التعامل مع المرضى على انهم مجرد حالات مرضية لا تملك أى نوع من المشاعر ولكن بسبب اننى وجدت عملى تماما مثل عامل المخزن يستقبل البضاعة ثم يوزعها على الارفف وبعدها ينقل هذا الصندوق من هذا الرف الى الرف الاخر اذا استقرت حالته أو يسلمه الى اقاربه ليقوموا بدفنه اذا سائت الحالة حيث أنه تلف نتيجة سوء التخزين ، على العموم أنا لم اتجاوز ابدا النسبة المخصصة لى من الاهلاك
- ما جعلنى اكتب اليك الآن سيدى النائب هو اننى اردت أن أعود انسانا قبل أن أعود طبيبا ، ان المستشفى الخاص الذى أعمل به يقوم ومنذ فترة طويلة بالاتجار فى اعضاء البشر ، واذا كان القانون يسمح بأن يتنازل شخص عن جزء منه فالمؤكد أنه لا يسمح بأن يسلب هذا الشخص اعضائه رغما عنه ، فبعد اشتهار المستشفى بتوفيرها للمتبرعين ، وزيادة زبائنها ، واصبحت من موردى العملة الصعبة للبلاد ، لم يغطى عدد المتبرعين المغلوبين على أمرهم العدد المطلوب والمطرد الزيادة بقوة ، فلجأت ادارة المستشفى الى المتخصصين من النصابين للايقاع بموردين للاعضاء المطلوبة ، ومنذ وقتها وأنا اشعر اننى اعمل فى مغارة تشملنى مع تسعة وثلاثين اخرين ، وبدأت افكر فيما افعله ؟ والى اين سأنتهى ؟ اننى غير قادر على الزواج خوفا من أن انجب ابناء ليكونوا فريسة لمثلى من الوحوش ، والخوف الاعظم من ان انجب وحوشا مثلى ، استشرت طبيبى النفسى والذى اخبرنى باننى احتاج الى الابتعاد والراحة لفترة ، ولكن كيف ابتعد وتلك الافكار بداخلى ؟ وكيف ارتاح وانا استحق العذاب ؟
- وكى تزداد حالتى سوءا اتت منذ فترة قصيرة الى المستشفى ضحية جديدة وكانت الضحية شاب فاقد للعقل والغرض منه سرقة احدى كليتاه لزرعها فى جسد زبون اخر ، وبعد اجراء الفحوصات وجدت انه يعانى من قصور فى الكلية اليسرى فقررنا السطو على كليته اليمنى ، وتمت العملية بنجاح كالعادة ولكن فى هذه المرة و استغلالا لحالة الضحية الذهنية تم القاءه بعيدا بعد أقل من ساعة واحدة من السرقة ، فقد اراد السادة الحضور المراهنة على أنه سيموت أو يحيا ، و ربحنا أنا و السيد مدير المستشفى الرهان وتمكن الشاب من البقاء حيا ، فالسيد المدير طبيب عظيم الخبرة فى مثل هذه الامور ، اما أنا فدائما ما التزم جانب المدير فربما أخسر الرهان ولكننى دائما ما اكسب وده
- رغم بقاء الشاب حيا الا اننى تألمت بشدة من هذه العملية وأصبحت أرى وجهه أمامى فى كل شىء انظر اليه ، ولم تفلح معى زيادة جرعة المخدرات التى اتعاطاها منذ فترة ، وزادت كوابيس اليقظة حتى كدت اجن ، وفى احدى الساعات جال بخاطرى أنه ليس من الضرورى أن يكون الانسان ابن زنا ليكون ابن حرام ، فأنا أمر يوميا بالعديد من ابناء الحرام والذين يعرفوا آبائهم تمام المعرفة ، وعندها احسست باننى فى حاجة شديدة الى حضن أمى فربما أجد لديها الخلاص مما اعانى ، وذهبت بعد انتهائى من عملى الصباحى الى منزل والدتى و الذى يبعد قليلا عنى ، طرقت الباب ولم يجب أحد ، طرقت باب جارتها وصديقتها الوحيدة فربما تجلس معها لتناول القهوة كالعادة ، استقبلتنى الجارة بترحاب وهنأتنى على عودتى من الخارج بالسلامة ، لم اجد رد لأقوله ، فبادلتها السلام وسألتها عن والدتى ، لم اعرف لماذا طرفت عيناها بشدة وارتعشت وكأن مسها شيطان ، تنهدت وهى تقول تفيدة الله يرحمها منذ ثمان سنوات ، لم اجد نفسى الا وأنا ابتسم وأعود بظهرى للخلف وأنا اومىء برأسى ، بعد خروجى من العمارة اتسعت ابتسامتى واتجهت الى سيارتى غير مصدق لما سمعته ، اغلقت باب السيارة وانهمرت دموعى بطريقة لم اعهدها من قبل ، اردت التحرك ولكن لم استطع حتى رفع رأسى ، لم اعلم كم قضيت من الوقت فى السيارة فلقد استرجعت ذكرياتنا وكيف كانت تلبى لى ما أريد ، كيف كانت تعمل حتى الصباح فى تطريز الملابس لتوفير مصاريفى ، كيف كانت لا تتوقف عن العمل الا لاعداد الشاى لى اثناء مذاكرتى ، كيف كانت تعانى من المرض ولا تستخدم ادوية لتتمكن من ضغط المصروفات ، كيف كانت لا ترد لى الاهانة عندما كنت اعايرها باننى ابن حرام ، كيف كانت دائمة المزاح معى للتخفيف من نوبات غضبى ، وايضا تذكرت كيف احتفلت معها بأول راتب لى فقد ابتعت لنفسى ملابس جديدة و لم احضر لها أى شىء ولا حتى الدواء الذى تحتاجه ، تذكرت كيف كافأتها بعد ان التحقت بالمستشفى الخاص فقد فاجأتها بالانتقال وحدى الى منزل لا تعلم حتى مكانه ، تذكرت كيف اختفيت تماما عنها منذ سنوات طويلة
- اردت الرجوع الى الجارة لسؤالها عن مكان المدفن ، فربما تجد أمى فى زيارتى لها فى القبر عوضا عن ما سبق ، ولكنى اردت التقدم لك اولا بهذا الاعتراف كى اتمكن من زيارة أمى وحدى وبدون هواجس أو شياطين
- بعد تناول جرعة من المخدرات عاد الى رشدى وادركت اننى لن استطيع التخلى عن عملى أو ما يدره من مال لذا لن استطيع البوح باسم المستشفى ، ولكنى اردت اتمام البلاغ وارساله الى سيادتكم عسى أن يساعدكم فى كشف آخرين مثلى ، فأتممت الكتابة وذلك بعد استبدال اسمى واسم أمى بأسماء أخرى
- أرجوا المعذرة عن ما فعلت وعن ما سأفعله لاحقا ، فأنا كما أثق تماما أنك ادركت اننى .. ابن حرام.
يوسف محمد
Sunday, February 19, 2017
ابن حرام (يوسف محمد)
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment