- فى طريق عودته الى المنزل يتابع عارف كل من حوله ، وفى قرارة نفسه ينتقد كل ما تراه عينه ، فكيف يقود هذا الرجل سيارته بطريقة متهورة؟ وكيف تسير هذه الفتاة بهذه الملابس الفاضحة فى الشارع؟ وكيف يسير هؤلاء الشباب فى منتصف الشارع؟ وكيف قام المسئولون ببناء هذا الكوبرى فى مثل هذا الشارع المزدحم؟ وكيف؟ وكيف؟ لم يتوقف عارف طوال حياته عن انتقاد الآخرين وكانت هذه طريقته فى الهروب من مواجهة فشله ، فقد كان دائم الانشغال بعيوب الآخرين عن عيوبه والتى اصبحت تزداد يوماً بعد يوم.
- لقد كان عارف فى صغره تلميذ متفوق فى دراسته وكل اقاربه ومدرسيه كانوا يتوقعوا له مستقبل زاهر ، ودأب والداه على تدليله وتنمية شعوره بالتميز ، ربما كان لوالديه العذر فى تدليله حيث كان وحيدهما ولكن تعظيمهم لاحساسه بالتميز كان نقطة خلل فى شخصيته تزداد عظماً كل يوم ، كان مستوى عارف الدراسى ينخفض كل سنة عن السنة السابقة ولم يلاحظ او يلتفت الى هذا التدهور بل كان يزداد غروراً يوماً بعد الاخر وكان يرجع ضعف درجاته الى تخلف نظام التعليم واهتمام المدرسين بالدروس الخصوصية فقط ، واستمر الحال حتى فى الجامعة فقد التحق بكلية التجارة بنظام الانتساب وتخرج بعد سبعة سنوات كاملة قضاها فى الجامعة لم يتمكن خلالها من تحقيق تقدير جيد ولو فى مادة واحدة ، بعد عامين كاملين من التخرج - قضاهما عارف فى المنزل يرفض كل ما يعرضه عليه والداه من وظائف بحجة انها لا تحقق طموحه او غير مناسبة له - بعد العامين وبعد وفاة والده رضخ عارف لالحاح والدته والتحق باحدى الوظائف بالمصلحة الحكومية التى كان يعمل بها والده.
- فى بداية التحاقه بالعمل كان مستاء من الوظيفة ، ولكن مع مرور الوقت وجد قدر كبير من المتعة فى عمله فقد كان يتيح له التحكم فى مصائر الناس كما يقولون ، ومن موقعه والذى من المفترض انه لخدمة المواطن وجد الفرصة الذهبية لانتقاد العملاء من المواطنين بدون ان يتمكنوا من الرد عليه فكل ما يرغبوا فيه هو انهاء مصالحهم والتى كانت القوة التى يمتلكها والتى كانت تشعره بالعظمة.
- بعد فترة بدأت والدته فى البحث له عن زوجة ، ومثلما كان يرفض الوظائف من قبل فقد اخذ فى رفض العرائس الواحدة بعد الاخرى ولكن كانت متعة الرفض هذه اكبر بكثير فقد كان يسخر من ملامح هذه ومن كلام تلك ومن اهل هذه او ثقافة تلك ومن.. ومن.. ، فقد كان متمرن على انتقاء عيوب الآخرين والاستمتاع بالسخرية منها.
- بعد عدة سنوات من بحث الأم المضنى عن زوجة لابنها ظهرت -سماح- كانت مهندسة حديثة التخرج التحقت بالعمل مؤخراً بشركة بجوار منزل عارف ، كانت الام تراها كل يوم اثناء الذهاب والرجوع إلى ومن عملها ، كانت فتاة شديدة الادب والرقة والهدوء بدرجة لفتت الام ، فى احدى الايام اعترضت الام طريق سماح وبعد مدحها بادرتها بالسؤال عما كانت مرتبطة وتفاجأت سماح واضطربت ولكن لم تتح لها الأم فرصة للرد حيث اخبرتها بوحيدها وانها تريد الاطمئنان عليه مع زوجة صالحة وانها ترى فيها تلك الانسانة ، لم تعرف الفتاة بماذا تجيب او ماذا تفعل وهنا طلبت منها الأم عنوانها لتقوم بزيارتهم.
- لم تكن سماح مهندسة عادية بل كانت الاولى على دفعتها وبمجموع درجات لم يحققه احد منذ عدة سنوات ، ورغم تفوقها الدراسى وتفكيرها العلمى والذى يتسم بقوة المنطق الا انها كانت شديدة الرومانسية وكانت تضعف امام عاطفتها وتجعلها السبب الاول والاخير فى اتخاذ قراراتها ، كان هذا التباين فى شخصية سماح مصدر استغراب صديقاتها حتى انهم كانوا يطلقون عليها اسمين حسب حالتها فالمهندسة سماح عندما يغلب المنطق على تصرفاتها وسماح سماح عندما تسيطر احاسيسها المرهفة على قراراتها.
- لطبيعة سماح الحالمة اثر كبير فى استقبالها لما حدث لها مع والدة عارف ، فقد حلقت بها احلامها بعيدا حيث تخيلت ان طريقة التعارف تلك ربما تكون الاكثر ندرة وغرابة بين طرق التعارف التقليدية وربما تكون تلك هى هدية السماء لها وربما تكون قصة حب هى الاقوى ، وفى انتظار ميعاد الزيارة وجدت سماح نفسها تحلم بالعريس المنتظر وكيف سيكون لقائهما ، ووجدت نفسها بدون أن تشعر تكتب اسمه على اى ورقة امامها.
- جاء يوم الزيارة واستعد المنزل بأكمله للاحتفاء بالضيوف المنتظر وصولهم بفارغ الصبر فقد كانت اسرة سماح بأكملها مرهفة الاحساس مثلها ولكن سماح كانت تفوقهم رومانسية ، وصل عارف ووالدته وكان كالعادة متأهب للسخرية ولكنه فى تلك المرة لم يتكلم مطلقاً بعدما رأى سماح ، لم يكن تخيل من قبل فتاة احلامه ولكنه ادرك ان هذه هى الفتاة التى ان استجمع كل ما يريده من زوجته ووضعه فى شخص واحد سيكون هذا الشخص هو تلك الفتاة.
- مرت فترة الخطوبة سريعاً وبينما كان عارف يمارس هوايته فى نقد كل من حوله كانت سماح تعيش فى عالم احاسيس الحب والرومانسية حتى انها كانت لا تلاحظ نقده اللاذع والذى يزداد حدة كل مرة ، وحتى عندما كان ينتقدها كانت تأخذ كلامه كمسلم به وتحاول التعديل من نفسها لتحوز على رضاه ، وفى احدى المرات تجاوز عارف فى نقده لها حتى انها بكت ولكن بمجرد ان صالحها تقبلت الامر وكأن شيئاً لم يحدث.
- تم الزفاف وبعدها بفترة بدأت ملاحظة سلوك زوجها وطريقة نقده المستمرة لكل ما حوله ولكل من يراه ، واصبحت تتضايق من سلوكه هذا خصوصاً بعد أن اصبح نصيبها من سخريته هو الاكبر فهى زوجته والتى يقضى معها اكثر وقته ، فى البداية كان نقده المستمر لها يقلل من ثقتها بنفسها ولكن ولنجاحها الواضح فى عملها بدأت فى ادراك انه خلل فى شخصية زوجها ، حاولت كثيراً مناقشته فى عدة امور عامة من التى ينتقدها ولكن كانت دائماً ما تنتهى المناقشة بالتحول لينقدها هى نفسها ، واستمرت الحياة بينهما على هذا الحال ، واختفت اشراقة وجهها ليحل بدلاً منها العبوس ، واختفى الهدوء لتحل العصبية مكانه ، وبينما ظل عارف كما هو اصبحت سماح تتجنب الحديث معه فلم تعد تتحمل كلمة واحدة من كلامه الحاد ، ودائماً ما تتركه يكمل كلامه وهى تتظاهر بأنها تسمعه مع أنها تلعن فى سرها كل ما يقول بل تلعنه كذلك وتتمنى أن يحدث لها كارثة بدلاً من أن تسمع بقية كلامه.
- لم تذهب سماح اليوم الى العمل لشعورها بالارهاق الشديد ، وها هو عارف يصل الى المنزل بينما كانت تعد الطعام ، وبدلاً من الاطمئنان عليها بادرها بقوله: شوربة عدس .. يعنى اليوم اللى تاخدى فيه اجازة مش مفروض تطبخيلنا فيه حاجة عدلة؟ فينك يا اما سيبانى اتبهدل كده ليه؟
- استائت سماح من عدم سؤاله عن صحتها خصوصاً انها كانت متعبة بشدة فى الصباح قبل ان ينصرف لعمله ولم يطمئن عليها طوال اليوم ، ولكنه كالعادة لم يلحظ استيائها ولكن استمر فى ملاحظتها وهى تطهو ليعلق عليها فمثلاً لابد من تحميص الخبز لعمل فتة العدس ، ويجب التحميص للدرجة الفلانية ، ويجب فصل رغيف الخبز لوجه وظهر ، وتبليله قبل تحميصه كى لا يحترق ثم تقطيعه لقطع متساوية ومتوسطة الحجم ، وان لا تتذوق الشوربة مباشرةً بملعقة التقليب ولكن تصب فى طبق ثم تتذوقها بملعقة اخرى ، وانها يجب ان تضيف الملح شيئاً فشيئاً وتتذوقها كل مرة ، وفى محاولة لها للرد تقترح سماح الا تضع ملح وأن يضيف هو لنفسه كما يحلوا له ، فيسخر منها وبأنها لا تستطيع حتى مجرد ضبط الملح فى الطعام وذلك بعد سنتين من الزواج يتحمل فيهما ما تطبخه وانه .. وانه .. ، تتوقف سماح عن سماع ما يقول وتتجه للمائدة لتحضيرها بينما ظل عارف يتابعها وهو يتحدث.
- جلس الاثنان لتناول الطعام ولكن مع استمرار حديث عارف اللاذع تتوقف سماح عن الأكل وتبدأ فى توبيخه وهى تبكى وتشتكى من انه لا يساعدها فى أى شىء وأنه دائم السخرية مما تفعل ودائم النقد لها و أكملت حديثها وسط دموعها المنهمرة بأنها تريد أن يبتعدا لفترة حتى تهدأ وفى نفس الوقت لتعطيه فرصة ليعدل اخطاءه ، لم يلتفت عامر الا لآخر جملة حيث علق بقوله: اسمها تصحح اخطائك مش تعدل اخطائك.
- بعد لحظة سكون جففت فيها دموعها وجدت سماح نفسها ترمى فى وجهه اناء العدس ، وتقوم لتنصرف وبدون أن تنظر اليه تقول: طلقتنى أو ما طلقتنيش مش عاوزة اشوف وشك او اسمع صوتك مرة ثانية.
- يوسف محمد
d,
No comments:
Post a Comment