- انتهى من عملى الثانى يوميا فى الحادية عشرة مساءا ، وبعدها احب العودة الى منزلى سيرا ، فساعة بجوار النيل تتيح لى محو آثار اليوم وأن استمتع بدرجة ولو قليلة من الهدوء ، فما بين يوم عمل ملىء بالضجيج والزحام وبين زوجة تسرد احداث يوم كامل فى نصف ساعة لزوجها المغلوب على أمره وهو يستبدل ملابسه ، وأثناء تناوله للعشاء ، وهو يحاول الخلود الى النوم كى يتمكن من الاستيقاظ باكر ليبدأ يوم عمل اخر ، لم افهم حتى الآن كيف ولماذا اعجبت اثناء الخطوبة بطريقة حديثها المكثفة وقدرتها المثيرة للعجب على عدم التوقف عن الحديث ولو لثوان لتلتقط انفاسها أو تريح يديها !؟ هذا وحتى لو ظلت تتحدث لساعات متصلة ، ذلك مع الأخذ فى الاعتبار ايضا سرعة كلامها حيث تتكلم فى ساعة واحدة ما يمكن ان يتكلم به الشخص الثرثار فى ثلاث ساعات كاملة !؟ ربما لأنها كانت أول امرأة فى حياتى فكنت استمتع بكل ما فيها من مظاهر الانوثة والتى كنت اعتقد خطأ ان منها الثرثرة ، ولكنى ومع مرور الوقت ادركت ان الذهب اثمن بكثير من الفضة!
- سوف اتوقف عن التفكير فى هذا الموضوع فقد بدأت اراها تتحدث أمامى وبدأت اشعر بالتمدد فى رأسى ، لنعد لشوارع القاهرة النصف هادئة فى هذا الوقت من الليل ، لا أعلم لماذا ادمن اغلبية الناس الضوضاء ، بل اصبحوا يستمتعوا بها ويستعينوا بها فى أى وقت وفى أى مناسبة . لماذا لا يستخدم هذا السائق الاشارات الضوئية بدلا من النفير الذى يستخدمه بعصبية ؟ لماذا كل هذا الطبل والزمر لزف العروسين وكأنهما قاما بفتح عكا ؟ لماذا التشجيع قبل العمل !!؟ لنحتفل بعد الانجاز وليس قبله ، وهذه الام المسكينة والتى تكاد تصاب بذبحة صدرية وهى تصرخ فى ولدها وهو كما يقولون اذن من طين واخرى من عجين ، لماذا لا يكتب هذا البائع السعر على بضاعته بدلا من النداء هنا وهناك؟
- اخيرا وصلت الى مكان استراحتى اليومية - فى عرض النيل - حيث اتوقف قليلا للاستمتاع برؤية النهر العظيم ومتابعة سريان المياه الهادىء ولكن قبل هذا سوف أغمض عينيا اليوم قليلا لأنعم بقليل من الهدوء.
- لقد اصبحت الآن اهدأ . ما هذا؟ غدا عيد زواجى ، اى انه اليوم ، فقد تجاوزت الساعة الثانية عشر ولابد ان اقدم هدية عيد الزواج فور وصولى بينما نكمل الاحتفال غدا ان شاء الله ، لا أعلم لماذا تزوجت فى نهاية الشهر؟ فبسبب هذا التهور اقع كل عام فى هذه المشكلة ، اخرجت كل ما معى من مال ومع الاخذ فى الاعتبار مصاريف الايام المتبقية من الشهر يبدوا اننى سالجأ الى الهدايا الرومانسية كالعادة فهى دائما ما تنقذ مفلسى الجيوب امثالى
- هذا هو بائع الفل .. ولكن لقد كانت هذه هدية العام قبل الماضى ، حيث تذكرت المناسبة بالضبط فى مثل هذا الوقت من اليوم ، ويومها اخذت فى تعديد مميزات الفل عن الورود الاخرى والتى لا اذكر منها الا السبب الحقيقى وهو اننى لم اجد سواه وقتها.
- لا اعرف الى اين اذهب أو ماذا اشترى؟ فرغم زحام الشوارع لابد ان اغلب المتاجر مغلقة ، وجدتها .. سوف اكتب لها رسالة حب مثل ايام الخطوبة ، ولكن الم تكن تلك هدية العام الماضى؟ لا اعرف لماذا يحتفل الناس بذكرى كل شىء فى حياتهم ؟ فهذه ذكرى أول لقاء وذكرى أول كلمة حب وذكرى الخطوبة وذكرى أول قبلة وذكرى الزواج .. أقصد عقد القران وذكرى الزواج وذكرى الذكرى !! فى رأيى أنه كل يوم يمر بين حبيبين هو أجمل من سابقه حتى أنه ومع مرور الوقت لا يمكن المقارنة بين اليوم الحالى والايام الاولى من الارتباط لعظم وروعة اليوم الحالى . الشىء المهم والذى تعلمته من عمرى المنصرف أن الآراء المخالفة لجميع من حولك هى أثمن كنوزك لذا يجب أن تحتفظ بها بداخل داخل أعماق نفسك ، والآن وعلى وجه الخصوص احتاج للاحتفاظ بهذه الافكار بعيدا عن ذهنى حيث اننى لا احتاج لمزيد من تثبيط الهمم.
- يبدوا اننى مضطر الى الذهاب الى منطقة وسط البلد لزيادة فرصة اختيار الهدية ، قمت بعد ما معى من اموال مرة اخرى للوصول الى اقصى مبلغ ممكن استخدامه ، اشرت الى تاكسى فأنا معرض لمداهمة الوقت لى بقوة ، وصلنا المكان المنشود ، واعطيت السائق ما يريد رغما عنى ولكن ما ضايقنى اكثر هو لماذا لا يشير السائق بما يريد من مال بدلا من الكلام ؟ الا تكفيه ضوضاء من حوله ؟
- اسعد دائما باننى من سكان القاهرة فالليل مثل النهار فلا يوجد فيهما هدوء أو راحة ، فالمتاجر تعمل وكأننا فى وضح النهار ، نعود للهدية فبعد الحسابات القصوى وجدت اننى على استعداد لشراء هدية قد تصل الى عشرة جنيهات !! ارجو عدم الاستهانة بما يمكن ان تقوم به عشرة جنيهات ، فأنا اعرف جار لى يمكنه احياء ميت أو دفن حى وبالاوراق الرسمية مقابل هذا المبلغ !!؟ لقد وصلت الى ما اريد .. هذا هو .. فليس أجمل من بطاقة معايدة مع بيت شعر مما احفظ ، قمت بانتقاء البطاقة وكتبت بها ما اسعفتنى به الذاكرة وعدت مسرعا الى المنزل بعد انهائى المهمة بنجاح.
- وصلت الى المنزل اخيرا ، ما هذه الرائحة العطرة ؟ انه مزيج من رائحة الطعام الشهى التى تعده زوجتى ورائحة عطر جديد يبدوا أن زوجتى اهدت نفسها اياه فى عيد زواجنا ، كانت الرائحة تجذبنى الى المطبخ ، احست زوجتى بقدومى فخرجت مسرعة لاستقبالى وفى نفس الوقت لمنعى من دخول المطبخ وافساد المفاجأة ، وجدتها سعيدة ومرتدية قميص نوم جديد ، لم الحظ القميص جيدا فقد حضنتنى ما ان اقتربنا من بعضنا ولكنى احسست بأنه من تلك النوعية التى تصيب صاحبها بالبرد ، لم اضع وقتا واخرجت هديتى من وراء ظهرها كأننى ساحر وهنأتها بعيد زواجنا ، لم أفهم رد فعلها عندما اخرجت البطاقة فقد استغربت بشدة ، حتى عندما قبلتها وجدتها شاردة الذهن
- ذهبت لتغيير ملابسى ، ولم اجد الا تفسير واحد وهو انها نسيت ذكرى زواجنا ، وفى الحال نفت هذا الاحتمال فقد جائت مسرعة واخرجت من الدولاب بيجامة جديدة يبدوا انها اشترتها لى اليوم . اذن ملابس نوم جديدة لها ولى ليست من قبيل الصدفة ، ولم تدم حيرتى طويلا فقد احضرت لى من درجها بطاقة مشابهة تماما لما اهديتها لها ، يا للمصيبة ، لقد تذكرت ، لقد كانت هذه هدية عيد زواجنا الاول ، لم استطع الا ان ابتسم ابتسامة بلهاء وأنا أقوم بفتح البطاقة القديمة وأنا ادعوا الله الا يكون نفس بيت الشعر الذى كتبته منذ وقت قليل ، ولكنه بالطبع هو فأنا لا احفظ من الشعر الا هذا البيت وبيت آخر لا يمكن حتى أن أذكره أمام أى امرأة محترمة.
- لا أعلم أصل مقولة أن سكة أبو زيد كلها مسالك ، ولكنى أعلم اننى قريب الشبه بأبو زيد ، فقد تفتق ذهنى عن فكرة جديدة ، فقد اشرت لها باننى اردت ان نستعيد ذكرى زواجنا الاولى ، اما غدا فسوف اصطحبك فى رحلة مليئة بالمفاجآت حيث سأذهب الى العمل لساعة واحدة لانهاء امور ضرورية وأعود لنبدأ رحلة المفاجآت (لابد من ذهابى الى العمل لاقتراض مال من أجل رحلة المفاجآت هذه) احتضنتنى زوجتى وتعلقت بى كما احبها أن تفعل دائما ، ثم انصرفت لتحضير مائدة الطعام ، استكملت ارتدائى لملابسى وانا مزهو بسرعة خاطرى ، عند نظرى فى المرآه ووجدت أن البيجامة ملائمة لى تماما وانها باللون المحبب لى تذكرت كيف انها استعدت لهذا اليوم واجتهدت فى انتقاء هديتى ، وزاد شعورى بتأنيب الضمير بعدما خرجت من الغرفة ووجدت القائمة الطويلة من الطعام ويبدوا انها اجهدت نفسها تماما طوال اليوم من أجل اسعادى ، بينما أنا لم ابذل ولو قليل من الجهد حتى فى انتتقاء هدية غير مكررة.
- هنا فقط تمنيت لو اننى استطيع الكلام لاعبر لها بلسانى عن حبى لها بدلا من الاشارة باليد والتى لم اعرف سواها فأنا مولود ابكم أبا عن جد ، دمعت عيناى وهى تمسك بيدى لتجلسنى بجوارها ، فاشرت اليها بما يجول بخاطرى ، فابتسمت وهى تدمع ايضا واشارت بيديها بأنها لن تستطيع سماعى فهى كما أعرف لا تسمع أو تتكلم مثلى تماما ، اشرت لها بأننى احبها حب أكبر من أى حب أحس به شخص آخر ومسحت على رأسها وأنا اشير لها باننى لا اريد افساد احتفالنا.
- بدأنا فى تناول الطعام ومعها بدأت عادتها فى سرد احداث اليوم وبدأت عادتى فى اظهار الاهتمام ، واذ بى الحظ كمية متنوعة من الاسماك الخاصة الاستخدام والتى تكفى لاضاءة الطريق الصحراوى ، هنا ادركت اننى سأصلى اليوم الفجر حاضر ، ارتعدت عندما تخيلت مياه الاستحمام الباردة فى هذا الوقت ، فلم استطع الاقتراب من تلك الاطعمة المؤذية واكتفيت بتناول الفاكهة ، لاحظت زوجتى انصرافى عن أكل المفيد من الطعام ! فأشرت لها بأن معدتى مضطربة وأننى لن أقدر على تحمل عواقب مثل هذه الاطعمة ، لم تعقب وان بدا واضحا خيبة املها ، انتهزت الفرصة وقمت مسرعا لغسل يدى ومنها الى غرفة النوم مباشرة ، فى أقل من دقيقة كانت زوجتى بجانبى فيبدوا انها هى الاخرى لم تكمل طعامها ، فى هذا الوقت لاحظت ما كانت ترتديه ، لقد وصل الغرب الى مرحلة مذهلة من التقدم حتى أنهم تمكنوا من صناعة طقم كامل من الملابس بخيوط تكفى فقط لتكوين عقدة ، استعدت تركيزى بعد فترة من الذهول ، وجدتها تنظر الى مبتسمة وفى عينيها نظرة نادرة الظهور ، لم استطع تفويت هذه اللحظة ، فأسرعت باغلاق الانوار للاستمتاع ولو بقليل من .. الهدوء.
Monday, March 20, 2017
قليل من الهدوء (يوسف محمد)
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment