- لا أعرف ماذا يحدث ؟ هل أنا فى إمتحان ؟ فأنا أجلس على مكتب فى غرفة مليئة بالمكاتب المتراصة ، غرفة متسعة لدرجة أننى لا أستطيع أن أتبين حدودها ، ومن حولى أناس كثيرون وكلٌ منهم يجلس على مكتب خاص به ، توزع على البعض منهم فى أوقات مختلفة أوراق - يبدو أنها أوراق أسئلة - بل وتسحب أوراق أخرى من آخرين فى أوقات مختلفة أيضاً ويبدو أن تلك الأوراق هى أوراق الإجابة ، بالنسبة لى فقد تسلمت ورقة الأسئلة منذ برهة ، ولكن لإنشغالى بغرابة هذا الإمتحان لم أقرأ الأسئلة بعد.
- إننى لا أتذكر كيف تقدمت لهذا الإمتحان الغريب ؟ بل وكيف أتيت إلى هنا ؟ كل ما أتذكره أننى منذ فترة قصيرة وجدتنى جالس هنا وأمامى أوراق بيضاء مدون عليها اسمى وكأنها أوراق إجابة مثل تلك المستعملة فى الإمتحانات ، وقبل أن أسأل أى أحد عنها وُضِعت لى ورقة الأسئلة فأيقنت أننى بالفعل فى إمتحان لا أعرف الغرض منه.
- هل هذا إمتحان ترقى فى الوظيفة ؟ لا ليس كذلك فأنا لا أعرف أى أحد من الجلوس ، ربما بعض الأوجه ليست بغريبة عنى ولكنهم ليسوا زملاء عمل بالتأكيد ، هل هو إمتحان لشَغل وظيفة جديدة ؟ ولكن هناك من الحاضرين من يتجاوز عمره سن المعاش ، ربما يكون استفتاء شعبى حيث يقترح كل مواطن ما يمكن أن تقوم به الحكومة كى تحسِّن من أحوال الناس وتنهض بالبلاد فى كافة المجالات ، ولكن لماذا كتابة اسم المواطن على الورقة ؟ إذاً فأنا لن أضيف إلى الأوراق إلّا الدعاء بالتوفيق للحكومة فى تنفيذ ما تراه صالحاً لنا ، ولكن يبدو أنه يوجد أجانب كثيرون إذن فهو ليس استفتاء شعبى ، بالطبع هنالك الكثير من الأجانب الذين يحاولوا التدخل فى أمور بلادنا ، ولكن من المؤكد أننا لن ندعوهم لهذا فنحن نحاول جاهدين منع تدخلهم قدر الامكان.
- كيف لا توزَّع علينا أوراق الأسئلة فى نفس الوقت ؟ وكيف لا يتم سحب أوراق الإجابة فى نفس التوقيت ؟ أين تكافؤ الفرص ؟ ما هذا ؟ إن ورق الأسئلة مع الحضور مختلف عن بعضهم البعض ، فبالرغم أننى لا أستطيع أن أقرأ أياً منها من على بعد ، ولكن الإختلافات بين أوراق أسئلة كل شخص تبدو واضحة وضوح الشمس ، فهذا الرجل يتسلم ملزمة من أوراق الأسئلة بينما الذى يليه معه ورقة واحدة ، إذاً نحن فى إمتحان تختلف فيه الأسئلة بإختلاف الأشخاص ، ولهذا يختلف طول وقت الإمتحان أيضاً ، إذاً أنا فى إمتحان شديد الدقة ويبدو أنه يراعى تكافؤ الفرص ولكن بطريقة غير مفهومة على الأقل بالنسبة لى.
- ماذا يفعل هذا الشاب الأحمق ؟ منذ أن جلست وهو لا يعير انتباهاً إلى إمتحانه بل آخذ فى هندمة ملابسه وإعادة ترتيب مكتبه كل دقيقتين ، ويبدو أن تلك الفتاة قريبة له فهى أيضاً لم تلمس أوراقها وكل ما تفعله حتى الآن هو أن تتزين وتصفف شعرها الذى أعتقد أنه يتساقط كى يفر من أسنان مشطها ، ما هذه الحماقة ؟ هل هناك وقت لمثل هذه الأمور أثناء أداء الإمتحانات ؟
- وبذكر الإمتحانات والحمقى المنشغلون عنها بأمور أخرى .. أنا لم أقرأ ورقة الأسئلة بعد .. فلأبدأ الآن .. ما هذه الضوضاء ؟ كيف يوجد أطفال فى إمتحان هام مثل هذا ؟ إنَّ كل طفل منهم يجلس على مكتب مثل الكبار تماماً ، وأمامه أيضاً أوراق للإجابة ، ولكن لا يوجد أمام أى واحد منهم ورقة أسئلة ، ربما الأوراق فى الطريق ، ما هذا أيضاً ؟ يتم سحب أوراق الإجابة من أحد الأطفال قبل أن يتسلم أى أسئلة ، ربما هذا بسبب ما سببوه من ازعاج ولكن لماذا أوراق هذا الطفل على وجه التحديد ، ماذا يحدث ؟ أين اختفى هذا الطفل ؟ لقد حدث أمامى هذا من قبل ولكننى لم ألحظ ، فبعد تسليم أوراق الإجابة يختفى صاحبها ، تلفّت حولى لأبحث عن شخص يسلم أوراقه لأتأكد من ظنى ، هاهى تلك السيدة الجالسة بعيداً تسلم أوراقها ، وها هى قد اختفت أيضاً فور تسليمها لأوراق إجابتها ، لقد بدأت أضطرب بل أعتقد أن الخوف قد تملَّكنى ، هل سأختفى أنا أيضاً بعد تسليمى لأوراق إجابتى ؟ وإلى أين سأذهب ؟
- ربما أنا الآن فى المستقبل البعيد وقد أصبحنا نتنقل بين الأماكن فى لمح البصر ، نعم إنه المستقبل ، فإمتحان متطور مثل هذا يجب أن يكون فى المستقبل ، هدأت قليلاً بعد أن اطمئننت لهذه الفكرة ، ولكن ماذا أتى بى إلى المستقبل ؟ وهل بعد أدائى للإمتحان سأعود أدراجى أم سأبقى هنا ؟ الناس من حولى تجىء وتذهب وأنا حتى لم أقرأ الأسئلة بعد ، ثم إننى لا أعرف متى سينتهى وقت إمتحانى ، إذاً أنا فى حاجة لكل ثانية.
- ألَّن يتوقف الناس عن إحداث ضجيج ، التفت يميناً بإتجاه الضجيج وهذه المرة لم يكن طفلاً بل شاب مفتول العضلات يبدو أنه يسعى للشجار ، لا .. إنه يريد فقط تسليم أوراق إجابته ، إذاً ما هى المشكلة ؟ لا يتم استلام الأوراق منه حيث يبدو أن الوقت المخصص لإمتحانه لم ينتهى بعد ، وأنه يجب أن يُتمم الوقت ليسّلم أوراقه.
- قررت أن أتدخل ونهضت من مكانى لأسير متوجهاً نحو هذا الشاب ، عندما اقتربت منه وبسبب شدة غضبه وجدت وجهه فى حُمرة الجمرة ، حاولت تهدئته وإقناعه بالصبر حتى إنتهاء وقت الإمتحان ، التفتَ إلى وهو يصيح فى وجهى بأن أهتم بنفسى فقط ، حاولت من جديد تهدئته فدفعنى بيده دفعة هائلة جعلتنى أطير فى الهواء وأرتمى للخلف لأسقط على أحد الحضور.
- اعتذرت لمن سقطت عليه ثم ربت على كتفه ، ولكنه لم يعيرنى أى انتباه فقد كان هذا المسكين أمامه رزمة من ورق الأسئلة وهو يجاوب السؤال تلو الآخر بدون أن يتوقف لالتقاط أنفاسه ، نهضت وشرعت فى ضبط هندامى وأنا أفكر فى حال هذا المسكين وكثرة الأسئلة المضطر لإجابتها ، إنه ليس بمسكين .. بل يبدو أنه طالب متفوق فبإجابته لكل تلك الأسئلة من المؤكد أنه سيحصل على مجموع درجات عظيم ، ولكن ماذا سيعنى التفوق فى إمتحان مثل هذا ؟ والذى لم أفهم ماهيته حتى الآن.
- فى طريق عودتى إلى مكتبى وجدت الجميع توقفوا فجأة عن الحركة وينظرون بإنزعاج شديد نحو شىء ما يحدث خلفى ، التفت لأجد الشاب مفتول العضلات وهو يهدد بأنه سيقطع أوراق إجابته إذا لم يتم استلامها منه الآن ، تفحصت أوجه من حوله لأجد عيون تستعطفه ألّا يفعل ذلك بينما عيون أخرى تتابعه بلهفة ومتمنية أن ينفذ تهديده ، لم أكمل تنقلى بين أعين الناس فقد نفذ الشاب تهديده.
- بمجرد أن انقسمت أوراقه إلى نصفين اختفى الشاب واختفت معه الأوراق ، وبعد لحظة صمت عاد زملائى فى هذا الإمتحان الغريب إلى استكمال إجاباتهم ، وقبل أن أعود أدراجى وجدت فتاة كانت تجلس بالقرب من هذا الشاب الثائر وجدتها وقد انخرطت فى البكاء وكأنها فقدت عزيز عليها.
- اقتربت منها وسألتها إذا كانت تعرفه ؟ بعد فترة التفتت إلى وهى تبكى وقالت إنه إبنها واشتد بكائها وأخذت تقبل إحدى أوراق إجاباتها ثم تحتضنها ، ابتعدت عنها بسرعة بعد ان ارتعدتُ ، إنها بلا شك غير طبيعية فكيف بفتاة لا يتجاوز عمرها العشرين عاماً أن تكون أماً لهذا الشاب والذى على الأقل يتجاوز عمره الخامسة والعشرين.
- لقد تذكرت .. إننا فى المستقبل .. ربما تلك الفتاة إمرأة يتجاوز عمرها الخمسين عاماً ولكن عمليات التجميل أخفت ذلك ، نعم هى عمليات التجميل فإذا كان فى عصرنا الحالى يمكن الرجوع بوجه الشخص لحاله قبل خمس أو عشر سنوات عن طريق إجراء مجموعة من عمليات التجميل ، فمن المؤكد أنه فى المستقبل قد تمكنوا من إحداث مثل هذا التغيير فى وجه هذه الفتاة الصغيرة أقصد هذه السيدة الأم.
- ولكن لماذا هذا البكاء الشديد ؟ هل هذا الإمتحان بالغ الأهمية إلى هذه الدرجة ؟ الإمتحان .. أنا لم أقرأ ورقة الأسئلة بعد ، أسرعت لمكتبى فجلست وتنفست بعمق كى أهدأ وأبدأ أداء إمتحانى ، ما إن لمست الورقة حتى وجدت صراخ مدوى يأتى من جهة اليسار ، التفت فى حركة لا إرادية بإتجاه الصوت فوجدت رجل طاعن فى السن يصرخ بكل ما أوتىَّ من قوة ويمسك بأوراق إجابته ولا يريد تسليمها ، عجيبة جداً أحوال الناس فأحدهم يتصارع من أجل تسليم أوراقه وآخر يتصارع من أجل عدم تسليمها ، وبالطبع لم أكن أحتاج لرؤية هذا الرجل وأوراقه تسحب منه لأوقن أنه لن يُمهل مزيداً من الوقت.
- يبدو أن هذا الإمتحان صارم القواعد خصوصاً فيما يتعلق بالوقت ، هل هذا هو نفس الوقت الذى يداهمنى وأنا لم أقم بشىء بعد ؟ بالطبع هو نفس الوقت والذى أهدِره بينما كان هذا العجوز يصرخ من أجله.
- استقريت على مكتبى وقد عزمت على أن أهتم بإمتحانى فقط ، وأننى لن ألتفت يميناً أو يساراً حتى الإنتهاء من إجاباتى أو على الأقل حتى أنتهى من قراءة ورقة الأسئلة ، ولكن الضوضاء لها رأى آخر ، فالضوضاء والتركيز لا يجتمعان ، وهاهى تأتى من جديد لتطرد تركيزى بأكمله ، ولكننى فى هذه المرة عزمت على عدم الإستسلام وقررت أن أتجاهل ذلك الازعاج وكأنه غير موجود بالمرة.
- أمسكت بورقة الأسئلة لأبدأ قرائتها ، ما هذا ؟ لا أستطيع قراءة أى شىء ، ما هذه اللغة ؟ إن الأحرف عربية ولكن الكلمات غير مفهومة ، تنقلت عينى بين السطور فى محاولة لقراءة ولو كلمة واحدة ولكن بائت محاولتى بالفشل ، أحسست بالاضطراب بل والاختناق ، إننى لست فى المستقبل بل أنا أعاصر حلم سىء وسوف أصحو منه بعد قليل ، أغمضت عيناى وقررت ألّا أفتحهما إلّا عندما أستيقظ ، فأنا لن أعايش أحداث هذا الحلم الغريب بعد الآن.
- مرّت فترة وأنا على هذا الحال وأصبحت لا أسمع أى أصوات من حولى بل ولم أعد أحس بأى حركة ، هنا أدركت أننى تخلصت من هذا الحلم المزعج وقد حان الوقت لأستيقظ.
- فتحت عيناى فوجدت نفسى كما أنا فى هذا المكان الغريب ، ومازال الناس من حولى يقومون بأداء إمتحانهم ولكننى لم أعد أسمع أى أصوات ، فوجئت بورقة الأسئلة أمامى وكل كلماتها قد انجلت تماماً ، الآن أستطيع قرائتها بكل سهولة ، تلفّت حولى وأنا أتنفس الصعداء حيث أننى أخيراً سأبدأ الإجابة ، وأنا اتلَّفت وجدت رجل يقوم من مكانه ليجلس بجانب سيدة وعلى نفس مكتبها ، أخذ منها ورقة الأسئلة ليقرأ كل سؤال ثم يمليها الإجابة ، كانت أحياناً تكتب ما يقول وأحياناً أخرى تناقشه ثم تكتب ما خلُصا إليه ، بينما فى أغلب الأوقات كانت ترفض ما يقول وتجيب هى من نفسها ، وأيضاً يقومون بنفس الشىء بورقة أسئلته ، تعجبت بشدة من أمر هذا الإمتحان الصارم المواعيد ولكنه يسمح بالحل الجماعى ، ابتسمت عندما تذكرت اصطلاح الحل الجماعى والذى كنا نطلقه أيام الدراسة على الغش كى نخفف من وطئته.
- أثناء متابعتى للثنائى المتعاون وجدت أننى أصبحت من جديد أسمع ما يدور حولى ، ولكننى لا أريد الآن إلّا التركيز فى إمتحانى ولتأتى متابعتى للآخرين فيما بعد ، بدأت أقرأ ورقة الأسئلة ولكنها عادت من جديد لتبدو وكأنها مُشفرَّة ، لا أعلم ما بال تلك الورقة ؟ ظللت أنظر إليها بتعجب وبدون أن ألتفت إلى أى شىء آخر ، ومع الوقت بدأت الأصوات من حولى فى الانخفاض وفى نفس الوقت بدأت الكلمات تتضح.
- إذاً أنا السبب فى تشفير ورقة الأسئلة ، تركيزى على تصرفات الناس من حولى يجعلنى أستطيع سماعهم ولكنه يضعف قدرتى على قراءة الأسئلة ، إذاً كل ما أحتاجه هو التركيز على إمتحانى فقط ، وبالفعل استمرّيت فى التركيز واستمرّت الكلمات فى الاتضاح الواحدة تلو الأخرى حتى أصبحت ورقة الأسئلة واضحة تماماً ، فى الحال أمسكت بورقة الإجابة لأجب عن أول سؤال ، ولكن ما هذا السؤال الصعب: من أنت ؟
- سؤال بسيط ومباشر ولكن هل تكون إجابته بسيطة ومباشرة ؟ ما المقصود من هذا السؤال ؟ إن اسمى مدوَّن بالفعل على ورق الإجابة ، فهل المقصود من هذا السؤال أن أصف نفسى ؟ وإلى أى حد أقوم بوصفها ؟ هل أذكر حياتى الخاصة ؟ هل أذكر تفاصيل حياتى أم الخطوط الرئيسية فقط ؟ ووجدت أننى فى حاجة إلى أحد يجيبنى على عشرات الأسئلة قبل أن أتمكن من إجابة هذا السؤال ، لذا فقد قررت أن أؤجل الإجابة وأن أنتقل إلى السؤال الثانى ، كان السؤال الثانى من تلك الأسئلة التى توضع لمساعدة الطلاب فقد كان سؤال بسيط وإجابته أبسط منه: ماذا تفعل هنا ؟
- دونت إجابتى سريعاً بأننى أقوم بتأدية إمتحان ، ويبدو أن واضع الإمتحان كان يعرف إجابتى مسبقاً ، فقد كان السؤال التالى: ما هذا الإمتحان ؟
- دارت الأفكار فى رأسى بعد قراءة السؤال ، فأنا منذ أن وجِدت فى هذا المكان وأنا أتسائل عن هذا الإمتحان ولم أجد إجابة ، والآن أصبح لزاماً علىَّ أن أجيب ، فبماذا أجيب ؟ استرجعت كل ما حدث طوال هذا الإمتحان الغريب ووجدتنى أرتجف بعدما أدركت ما هو ، بل وبكيت على الوقت الذى فاتنى وأنا أتابع من حولى ولم أقترب من ورقة إجابتى ، بكيت على الدرجات التى فقدتها بدون أن أعيرها اهتماماً ، بكيت وأنا أتذكر هذا العجوز وهو يصرخ من أجل إمهاله وقت إضافى ، وارتعدت خوفاً حينما علمت إلى أين ذهب هذا الشاب المفتول العضلات.
- تماسكت سريعاً فليس أمامى إلّا أن أجتهد بكل ما أوتيت من قوة لأستطيع الإجابة عن أكبر عدد من الأسئلة قبل أن ينتهى الوقت المحدد لى ، فكتبت إجابة السؤال قبل أن أنتقل إلى سؤال آخر ، كانت الإجابة بسيطة ويعلمها الجميع:
- هذا الإمتحان هو الحياة ، أحياها فى محاولة للنجاح لينعم الله علىَّ بالجنة ، أو أرسب فيها ويكون مصيرى جهنم والعياذ بالله منها ، إن وقت هذا الإمتحان هو عمرى والذى لن أسىء استخدامه بعد الآن.
يوسف محمد
No comments:
Post a Comment