- أنهيت المهمة بنجاح" هكذا حدث نفسه وهو يلقى بنفسه على مقعد الأتوبيس وقد اقتربت الساعة من الثالثة عصراً كان يوما شاقا حقا عليه فهو لا يحب العمل خارج المكتب ويكره أن يقابل عملاء فى الخارج فعليه أن يكون فى أبهى صورة وعليه أن يلف رقبته برباط عنق .. ويجب عليه أيضا أن يبتسم مهما كانت الظروف ... كان دائما يقول لمديره أنه حينما يفعل ذلك ويذهب إلى عميل فإنه يشعر وكأنه "مندوب مبيعات فى محنة" على نمط رواية ارثر ميللر ويتذكر أنه قرأ مرة من قبل أن نهاية قصة "محنة رجل بيع " كانت مأساوية حينما انتحر مندوب المبيعات فى زمن السوق السعيد .. لكن قناعة مديره كانت دائما انه الوحيد الذى يمتلك مهارات التفاوض وأن هيئته الشكلية مناسبة لمثل هذه الأعمال ..... وهو لا يرى كل هذا فى نفسه ويشعر أن تركيبة شخصيته تميل إلى الخجل .. ولكن هيهات لا أحد يختار ما يعمل ... وتذكر أنه حينما دلف إلى المكتب ذلك الصباح وأختار رابطة العنق المناسبة التى كان دوما يترك عددا منها فى درج مكتبه فقد كان لا يربطها إلا حينما يكون فى حاجة إليها لذلك كان يتركها فى المكتب .. وحينما رأه زميله فى المكتب أشار إليه بدعابة أصولية كثيرا ما كان يلقيها هو على مسامعهم حينما كانوا يرتدون رابطات العنق " آنت ما سمعتش عن فتوى ابن بطة فى تحريم لبس الكرافتة " .. نظر إليه فى غيظ وقال .. إسماعيلية يا سيدى لازم أروح الجامعة هناك النهاردة علشان نقدر نبتدى الشغل من الأسبوع القادم ......... استمر تدفق نهر ذكريات ذلك اليوم فى رأسه وتوقف عند وجه تلك السيدة الذى كان عليه أن ينهى معها الإجراءات الإدارية اللازمة للشركة لبدء النشاط داخل الحرم الجامعى كانت سيدة أقل ما توصف أنها "حيزبون" كانت فى الأربعينات من عمرها ومازالت تظن نفسها فى العشرينات كانت تتصور نفسها افروديت أسطورة الجمال الإغريقية بينما هى كانت تشبه الوحوش فى الأساطير الإغريقية .. كان شعرها ملوث بالألوان وكذلك وجهها وهى تضع المساحيق بشكل لا يدل على أى فهم فى أصول المكياج .. أحس منذ دخوله المكتب أنها تلتهمه بعينها ورغم حصولها على ظرف الهدايا فقد أسرفت فى الطلبات الذى يجب أن يفعلوها ...انبسطت أساريره حينما طلبت له ليمون فقد كان يحتاج إلى تهدئة أعصابه حتى لا تنفلت مشاعره ويلعن اليوم الذى عمل فيه فى هذه الشركة ويترك كل شئ ويرحل .. راح يحثها على سرعة إنجاز الإجراءات ولكنها أسهبت "أنت وراك ايه موش إحنا بس النهاردة وكمان "أنت مش معاك عربية" ... وحينما قاطعها قائلا "أنه استخدم المواصلات للسفر نظرت إليه فاغرة فاهها "شركتكم الكبيرة دى بتوفر فى كل حاجة"....نظر إليها هو الآخر فى دهشة .. راح يغمم فى نفسه "شركة كبيرة دول لو فى أيديهم يوفروا مصاريف السفر كانوا عملوها" لكنه ابتسم ابتسامة بلهاء لا تدل على إى شئ .........
- قطع تدفق نهر ذكريات اليوم صوت شاب التفت إليه أنه يرجوه أن يغير مكانه داخل الأتوبيس لأنهم أثنين زملاء ويريدون أن يجلسوا سويا رأى نظرة الرجاء الشديدة فى عينيهما لم يتردد فى أن يغير مكانه سريعا .. فقد كان نفس الصف واهم شئ بالنسبة له أن يجلس بجوار النافذة كى يرى معالم الطريق والأتوبيس يتحرك ... نظر فى ساعته تعامد العقربان تماما أنها الثالثة .. شعر أن الأتوبيس لن يتحرك فى ميعاده بالضبط كعادة كل المواعيد فى مصر .. تذكر دوما تشدده فى المواعيد حينما يأتى أحد متأخرا ويقول له "يا عمى دول خمس دقائق" كان يعتبر ذلك إهانة شخصية للشخص المنتظر وكان دوما يردد "سبعة ونصف " ليست " سبعة ونصف وخمسة " لكن خفف من وطأة شعوره بالتأخير أن الركاب أصبحوا يتوافدون على الأتوبيس واكتملت معظم صفوفه ... أعجبته فكرة أن هناك كثير من الطلبة فى الأتوبيس تمنى أن يجلس بجواره طالب ليتأكد أن المكان الذى اختاره مناسبا ومعروفا وسط الطلبة حتى يكون قد أتم مهمته على أكمل وجه ... صعد السائق إلى الأتوبيس تزاحم عدد من الطلبة فى الممر .. تقدمت فتاة لتجلس بجواره .. كانت تتحاور مع شاب أثناء جلوسها تصور أنه يجب عليه أن يغير مقعده للمرة الثانية وحين أشار بذلك فاجأته قائلة "ده معايا طول النهار أنا زهقت منه " لم يملك سوى الابتسام .. كان يريد من يجلس بجانبه أن يكون طالبا حتى يستطيع أن يتكلم ويسأل براحته .. خشى من طالبة لأنها سوف تظنه يعاكسها حينما يتكلم معها.. هكذا دارت الأفكار فى رأسه .. لكنها لحسن الحظ لم تتركه لأفكاره كثيرا وبدأت تسأله "يا ترى كنت فى اسماعيلية ليه يا أستاذ" .. التفت إليها وعينه مكسورة من ضوء الشمس المتسلل من النافذة مجرد شغل فى الجامعة .. وياترى حضرتك كنت فى الجامعة الجديدة ولا القديمة ... شد ستارة الأتوبيس واعتدل تجاهها وبدأ يخرج أوراقه إحنا شركة ...وظل يسرد ما فعله واخرج لها الرسم الكروكى الذى قام به للجامعة وسألها إذا كان المكان الذى اختاره معروفا للجميع ... وقد شعر بالغبطة لأنها أبدت إعجابها بالرسم الكروكى وأنه لا يمكن أن يكون رسمه فى زيارة واحدة للجامعة وقالت " أنا فى الجامعة من سنة ولسه مش عارفه كل الأماكن اللى أنت رسمتها فى يوم واحد" وزاد من غبطته اكثر أن المكان الذى اختاره يتوسط الجامعة وكل الطلبة يعبرون عليه ويعرفونه ..... ولكن حماسه فتر حينما قالت " ربنا يوفقكم " شعر من أسلوب إلقاء الكلمة أنها لا ترغب فى الاستمرار فى الحوار بدأ الأتوبيس فى الحركة تذكر أنه تحدث عن نفسه كثيرا ولم يعطى لها أى فرصة للحوار ..... فكر فى أن يحاول أن يتعرف عليها لكنه وجد أنه عرف كل التفاصيل الذى يريد أن يعرفها .. فلا داعى لإزعاجها .. هم بفتح الستارة ليشاهد الطريق ... بدأ تشغيل الفيديو
- - وجدها تقول يا ترى فيلم إيه؟.. سردت عدة أسماء للأفلام تذكر أنه شاهد أحدهما صباحا ، وهم بأن يعلق لكنها قالت أصل الأفلام محفوظة شركة الأتوبيسات بتعرض نفس الأفلام ولا تتغير ...
- - قال : كنت أفكر صباحا لما الفيلم كان سئ لماذا لا يتم عرض أفلام تسجيلية عن المدينة التى سوف يزورها الأتوبيس.
- - "أفلام تسجيلية" قالتها بصوت ينم على الانزعاج ونظرت له من أسفل النظارة التى كانت ترتديها "هو مين فيه دماغ" !!!
- - لم يستطع أن يعلق لكنها يبدو أنها شعرت بحرجه من الكلمة التى قالتها .. واستطردت قائلة " أصل الواحد بيكون مجهد من المحاضرات ومحتاج حاجة ترفه عنه " ....
- - حاول أن يبقى على طرف الحديث مفتوحا فأمامه ساعتين على الوصول إلى القاهرة فاستفسر بصوت منخفض ينم على الارتباك ...وحضرتك كلية ايه ؟
- - بدت متحمسة هذه المرة أنا كلية تجارة إنجليزى ..
- - قاطعها بسرعة كلية جميلة المستقبل دلوقتى للإنجليزى والكمبيوتر فى فرص العمل .. واخذ يعدد لها كيف تلتحق بدورات الكمبيوتر أثناء الدراسة أو بعد ما تنهى الدراسة وعدد لها المنح التى تمنحها وزارة الاتصالات وكيفية الالتحاق بها ...
- - رددت متململة " إن شاء الله " .......
- قُطعت كل أطراف الحديث مرة أخرى لا يعرف لماذا لا يستطيع أن يضبط موجته على الموجه الخاصة بها...
- - عاد يتأمل الطريق .. تذكر كم مرة مر على هذا الطريق كان مصيف الأسرة الدائم فى "فايد" كان خاله ضابطا فى القوات المسلحة .. علت الابتسامة وجهه وهو يتذكر كيف كان يرتدى بدلة عسكرية كاملة وهو صغير ويعلق " الرتب " الخاصة بخاله عليها ... مر الأتوبيس بجوار إحدى الدبابات على نصب تذكارى فى الطريق تذكر أن رأسه خبط فى غطاء هذه الدبابة حينما أصر على أن يشاهدها مرة فى رحلة العودة ... وتذكر أيضا كيف أن كل مرة يذهب ويشاهد الدبابات مع خاله كان رأسه يرتطم بها حينما يخرج من تلك الفتحة الضيقة .. كان لا يعرف كيف وخاله بهذا الطول ويدلف إليها دون أى مشاكل وهو يرتطم رأسه بها كل مرة .. كانت من أكثر الأشياء التى تضايقه وهو صغير ثقل الخوذة وخبطات الدبابة مما جعله يقول بكل ثقه إلى خاله فى أخر مصيف "أنا غيرت رأيى مش حكون ضابط جيش أنا موش مستغنى عن دماغى " ولم يكن يدرى وقتها لماذا علت ضحكات أفراد الأسرة .....
- - بالكاد سمع صوتها ... وهو غارق فى ذكريات الطفولة .وحضرتك هواياتك ايه؟ .... التفت إليها مرة ثانية واخذ يعدد لها حبه للقراءة وجمعه للطوابع .. ولعبه الشطرنج وكيف أنها معركة بلا سلاح ... .
- - قاطعته بحدة وهى تضغط على حروف كلماتها "وحضرتك ما بتسمعش اغانى .. كاظم الساهر مثلاً ...
- - طبعا بحب الأغانى لكن انا بحب كلمات اغانى كاظم لأنى قرأتها من أشعار " نزار قبانى " وإن كنت بحب فى نزار القصائد السياسية .. " هوامش على دفتر النكسة "...
- - قاطعته مرة ثانية متمتمة طبعاً طبعاً ...الجزء ده من الفيلم جميل وأدارت وجهها ناحية شاشة العرض ..
- عاد ينظر مرة أخرى يتأمل الطريق .. لم يخرج من ذكرياته هذه المرة إلا على خبطة فى كتفه التفت وجدها مستغرقة فى النوم وقد سقطت رأسها على كتفه .. بدا المنظر غير مريح له ... ابتسامة علت وجه أحد الطلبة يوازيه فى الكرسى على الجانب الثانى من الأتوبيس شعر بالحرج ... ذلك الغبى لا يفهم انه لايعرف الفتاة وأنها بحق نائمة .. انسحب بجسده حتى التصق بجدار الأتوبيس .. سقطت رأسها من على كتفه فتحت عينيها معتذرة ... وعدلت رأسها مرة أخرى ....
- مرة ثانية سقطت رأسها على كتفه التصق مرة أخرى بجدار الأتوبيس لا يعرف أين يذهب .. فكر لو كان هناك مقعد خاوى .. ويترك لها الكرسى ..
- جاءت المضيفة بدت ابتسامتها ابتسامة خبيثة وهى تنظر إليهم " تحبوا تشربوا حاجة " استيقظت مرة ثانية وهى تشكر المضيفة شكرها هو أيضا .... ولكن لم يفت عليه أن يلعن سوء ظنها فى سره...
- انتهز فرصة استيقاظها ..سألها " تحبى تيجى مكانى " .. .. شكرته واستغرقت فى النوم ...
- لكنها عادت وأمالت رأسها على كتفه بدا كفأر مذعور منكمش فى ركن غرفة وهو منكمش فى نافذة الأتوبيس ... لم يعد هناك مكان ينسحب فيه .. شعر بأن الأتوبيس كله ينظر إليهما ويظن بهما السوء .. ..
- تيبس كتفه خشى أن يسحبه فتقع وهو لا يريد إزعاجها .. وفى نفس الوقت لم يكن يري أن يساء الظن بهما وسط كل هذا الجمع ... شعر بكل العيون تنظر إليه فكر فى ثمانين عين يملؤهم الشك نحوه .. .. مضت الدقائق بطيئة لم يعرف كم مرة عدلت من وضع رأسها واعتذرت .. وحينما دخل الأتوبيس شرق القاهرة بدت تستيقظ يبدوا أنها تسكن قريبا هكذا حدث نفسه ..... فكر فى أن يسألها كيف أنها تضبط ساعتها البيولوجية بحيث تستيقظ حينما تريد ... لكن لم تمهله قليلا بدأت فى حزم متعلقاتها .. فرصة سعيدة يا أستاذ .. وتركته دون أن تلتفت مرة ثانية.............
- لم يدرى لماذا كانت قصته نكته المكتب كله صباح اليوم الثانى.. فحينما هم أحد زملائه بسؤال خبيث تعرفت على حد من الجامعة .. وحينما سرد القصة بدا زميله يقول له فى حد يكلم واحدة عن الأفلام التسجيلية وبرامج الكمبيوتر والشطرنج يابنى أنت خلصت على مرارة البنت ... وبعدين نامت على كتفك يا أخى أتحرك ... طيب عرفت أسمها ، ساكنة فين ...
- - قال له باستهزاء وأنا اعمل أيه بكل ده أنا كان المهم بالنسبة لى أعرف المكان اللى اخترته وبس ..اعمل أيه باسمها ولا حتى برقم تليفونها .............ثانيا وده الأهم دى بالنسبة لى طفلة دى سنها من سن بنت أختى ..........
- ليه هو أنت عندك كام سنة أنت لم تتجاوز الثلاثين ... فى نفس الوقت دخلت المكتب زميلتهم .. لم يتوانى زميله عن شرح القصة لها .. قالت هى الأخرى يا أستاذ لا توجد واحدة محترمة تنام فى أتوبيس وبجانبها إنسان غريب ..
- تذكر نظرات المضيفة .. ومن فى الأتوبيس والآن زملائه ......
- خيم على يومه الاستياء لم يعرف لماذا أصبح كل الناس ذوى نوايا سيئة .............!!!
Tuesday, February 2, 2010
نوايا سيئة
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment