Sunday, February 19, 2017

ظل العدالة (يوسف محمد)

  • فى احدى ليالى الشتاء الباردة فى منطقة العجمى بالاسكندرية ، الشوارع شديدة العتمة و الامطار الغزيرة اخلتها من المارة ، كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة ، عندما اقتحمت سيارة مسرعة المكان ، كان السائق ضابط شرطة يقضى يومه كله بل حياته بأكملها فى عمله ، وقد كان يقود بسرعة جنونية فقد اقترب من حل القضية التى دامت معه اكثر من ستة اشهر ، والتى امتدت لتشمل ثلاثة جرائم قتل متتابعة ، اوشك الضابط على الالتقاء بالقاتل و لأول مرة منذ بدأ التحقيقات
    اراد الضابط القبض على القاتل بنفسه ودون الاستعانة بأى دعم من الشرطة ، اراد أن يثبت للجميع كفائته بعد أن شكك بها الصغير قبل الكبير نتيجة تأخره فى كشف الجانى
    اوقف الضابط السيارة قبل المكان المنشود بقليل كى لا يدرك القاتل وصوله ، اخرج مسدسه واعده للاطلاق ثم اقترب بخطوات حذرة ، كان المكان عبارة عن مدرسة متهدمة لا يبقى منها الا مبنى من دور واحد وبعض الحجارة المبعثرة هنا وهناك ، ما ان اقترب من المبنى حتى بدأ فى الاحساس بوجود شخص بالداخل رغم عدم سماعه لأى صوت ، تسلل الى داخل المبنى شاهرا مسدسه بيده اليمنى والاخرى ممسكة بمصباح مطفىء ، سار خطوات اخرى الى الداخل معتمدا على اضاءة القمر و بدأت الاضاءة تخفت و لكنه اخر انارة المصباح الى اللحظة الاخيرة ، وصل الى غرفة كبيرة يبدوا انها كانت صالة الالعاب
    انه مسرح المدرسة - جملة جاءت من خلف الضابط لتخترق الصمت السائد فى المكان ، التفت الضابط سريعا و هو يشهر مسدسه و يضىء مصباحه فى اتجاه الصوت ، رفع الشخص يديه و هو يرتعد و يقول : انا الشخص الذى اتصل بسيادتك على الهاتف
    رد الضابط فى حدة : وماذا اتى بك الى هنا ؟
    رد بنبرة اكثر خوفا : بعد المكالمة ظللت اتابعه كالعادة و عندما وجدته غادر المكان ، قررت ان انتظر سيادتك هنا
    سأله الضابط وبنبرة شك : اريد ان اعرف علاقتك بالقاتل بالضبط ؟
    بدأ الشخص فى انزال يده وقد بدا اهدأ : انا اقيم هنا ، و هو بالصدفة يختبىء فى هذا المكان المهجور فتجسست عليه حتى عرفت عنه كل ما اخبرتك به
    رد الضابط وهو ما زال شاهرا لمسدسه : ولكنى لم امر بمنازل بالقرب من هذا المبنى
    ابتسم الشخص وهو يقول : انا اقيم هنا كما اخبرتك
    استغرب الضابط : هل تقيم هنا فى هذا المبنى المهجور
    اومأ الشخص برأسه بالايجاب
    اقترب الضابط بخطوات بطيئة ومازال مشهرا لمسدسه وسأله : وكيف لم يلاحظ القاتل وجودك ؟
    ابتسم الشخص و هو يقول : هو لا يستطيع ان يرانى ، انا فقط الذى اراه
    وصل الضابط الى الشخص واشار اليه بالمسدس : التفت الى الحائط و يداك الى الاعلى
    نفذ الشخص ما امره به الضابط و ان بدا عليه التبلد ، قام الضابط بتفتيشه و لم يجد معه اى شىء ، فسأله وهو يوخزه فى ظهره بفوهة المسدس : ما هذا ؟ الا تحمل بطاقة اثبات شخصية او حتى اى اموال ؟
    لم يرد الشخص ونظر الى الجانب الاخر متجاهلا الضابط ، ركله الضابط فى ظهره وهو يقول : الا تسمعنى ؟
    ارتطم الشخص بالحائط ثم ارتد ليسقط على ركبتيه وأمسك بأنفه التى نزفت قليلا
    مال الضابط خطوة الى الجانب الايسر : انت لا تعرفنى ، الافضل ان تتكلم حالا ، ثم عاجله بركلة فى جانبه الايسر صرخ على اثرها الشخص و وقع على جانبه الايمن و تكوم من اثر الضربة ، لم ينتظر الضابط والتف ليصبح امامه و فرده بقدمه ليواجهه و وجه المسدس الى رأسه و اعاد السؤال : الن تخبرنى من انت ؟ و ما علاقتك بالقاتل ؟ وكيف تراه ولا يستطيع ان يراك ؟
    بدأ الشخص فى النهوض فى بطء وهو يقول : انا مجرد شخص يريد مساعدة العدالة ، اما كيف اراه ولا يرانى فهذا طبيعى جدا
    قبل ان يكمل الشخص جملته ركله الضابط فى ساقه فاطاح به ، و اسرع الضابط تجاهه وهو على الارض ليكمل ضربه ، ولكن الشخص اشار بعصبية الى الجانب ، توقف الضابط ونظر الى الجانب ، كان جدار عادى فالتفت الى الشخص غاضبا ، و لكن الشخص استمر فى الاشارة الى نفس الاتجاه ، التفت الضابط ناحية الجدار مرة اخرى و بدأ فى تفحصه ، بادره الشخص بقوله : الظل
    التفت اليه الضابط مستهجنا ما سمعه : ماذا تعنى ؟
    اكمل الشخص حديثه وهو ينظر الى الحائط مبتسما : الظل ، يمكن ان تراه ، ولكنه لا يراك
    ادرك الضابط انه يتحدث الى مخبول ، فانزل المسدس و دنا من الشخص وجذبه من شعره ليجعله يقف : دعنا نكمل هذا الحديث فى القسم
    لم يدرك الضابط ما حدث ففى اقل من لحظة وقبل قيام الشخص تماما ، امسك بيد الضابط و بحركة فجائية من الشخص برأسه كسر يد الضابط ثم افلتها ، ووجد الضابط نفسه ملقى على الارض بيد مكسورة و مسدسه فى يد الشخص الاخر و مشهرا له نحوه و هو يبتسم
    تسائل الضابط وهو يضغط على يده المكسورة وقد انخفضت نبرة صوته : من انت؟
    رد الشخص وقد بدا عليه الثقة المفرطة : انا ظل العدالة
    لم يفهم الضابط شيئا ، ولكن الشخص تابع حديثه : هل سبق و ان تابعت ظلك ؟ الظل دائما ما يتبعنا ولكننا لا نعيره اهتماما
    اتجه الشخص الى احد الجوانب و ضغط على عدة ازرار بجانب الحائط ، فاضيئت الغرفة من اتجاهات مختلفة وبشدة اضاءة متباينة ، اتجه الشخص الى منتصف الغرفة ونظر الى الضابط ثم استكمل حديثه : فى حالة مثل هذه ، الظل غير واضح ولكن ..
    واقترب من الحائط و هو يقول : ولكن اذا اطفأنا بعض هذه الانوار ..
    ثم قام بالضغط على احد الازرار لتصبح الاضاءة من الجانب فقط و اكمل حديثه : عندما اعتمت قليلا اصبح للظل وجود قوى
    لم يكن الضابط يفكر فى أى شىء سوى كيفية الخروج من هذا المأزق ، احس الشخص بذلك فبادره بقوله : ارجوا ان تتابعنى وبعدها ساتركك تخرج ، ولكنك سوف تخرج شخص اخر اقوى بكثير مما انت عليه الآن
    قام الشخص باطفاء الانوار تماما و هو يقول : اذا وصل الظلام الى درجة كبيرة فلا يوجد تأثير سواء للشخص او ظله ، اى ان دور الظل يبدأ عند بداية ظهور الظلام وينتهى عند الظلام الحالك أو الضوء الكاشف من كل جهة ، وانت تعلم كما نعلم جميعا انه لا يوجد فى الحياه ضوء كاشف من كل جهة ، و تعلم ايضا اننا كضباط شرطة مهمتنا الاساسية ان نمنع الوصول الى حالة الظلام الحالك
    لاحظ الشخص استغراب الضابط : نعم انا ضابط شرطة مثلك و لكننى اعلى منك برتبة واحدة حيث اننى اكبر منك بسبع سنوات ، اعلم انك ترقيت ترقية استثنائية لكفائتك ولكنى ايضا من اصحاب الكفاءة الاستثنائية
    حاول الضابط التحدث ، ولكن الشخص اشار اليه بالصمت و اكمل حديثه : كونى ضابط متحمس لعمله كنت دائم الاصطدام بالاجراءات القانونية ، و بسببها افلت منى بل افلت من العدالة العديد من الاشخاص والذى كان يكفى القضاء على واحد منهم بجعل الحياة افضل ، و مع الوقت اصبحت مثلك عنيف لا اتردد فى استخدام كل السبل للاطاحة باعدائنا ، كنت ارى الظلام يشتد يوما بعد يوم و انا مقيد بقوانين العدالة التى اتاحت للاجرام فى اوقات كثيرة التحرك بحرية
    و فى احد الايام وعند عودتى الى منزلى ليلا بعد يوم طويل وشاق فى خدمة العدالة ، دخلت المنزل و وجدت المكان مقلوب رأسا على عقب ، جريت فى كل مكان ابحث عن زوجتى و ابنى و هما كل شىء بالنسبة لى بالاضافة الى عملى ، وجدت زوجتى فى غرفة ابننا الرضيع ملقاة على الارض ، مفصولة الرأس و غارقة فى دمائها ، بينما ابننا يبكى بصوت ضعيف ويبدوا انه بكى لفترة طويلة اجهدت صوته ، حملت الطفل محاولا تهدئته و لم استطع الاقتراب من زوجتى فلقد ادركت على الفور اننى السبب فى قتلها ، لم ابكى ولم تدمع عيناى فالغضب لم يدع مكان فى قلبى للحزن ، خرجت من الغرفة للاتصال بالشرطة ، وأنا ابلغ عن الحادثة رأيت ظلى يمتد من موقع وقوفى و حتى غرفة ابننا ، احسست وقتها ان ظلى يريد الذهاب لاحتضان زوجتى ، عندها ادركت ان الظل يمكن ان يفعل ما لا يقدر عليه الشخص نفسه ، و وقتها قررت ان اتيح لظلى حرية التحرك
    كان الضابط قد تأثر قليلا بكلام الشخص ولكنه مازال يتعامل معه على انه مجرم مختل نفسيا ، فتظاهر بالتعاطف وهو يستمع له
    ابتسم الشخص وهو يراقب تعبيرات الضابط المزيفة و قال : انت تشبهنى حقا ، و لكنك مازلت مزهو بنفسك بدرجة اكبر من المفروض ، دعنى اختصر الطريق لاننى لم اعد اتحمل ان يهزأ احد بذكائى ، و ربما اقتلك قبل انهاء حديثى اذا بدت منك مثل هذه التعبيرات
    سكن الضابط تماما وارتسمت على وجهه علامات الجدية
    رفع الشخص صوته و هو يقول : نعم ، هكذا يكون الانصات ، استمع لى بتركيز اكثر ، بعد مقتل زوجتى تفرغت للبحث عن قتلتها و لم يمر وقت طويل حتى عرفتهم و كما توقعت كانوا من بقايا قضية سابقة ، لم اكتفى بالقضاء عليهم ، فبعد قتلهم ادركت ان ما حدث لى قد حدث لسبب اهم واعظم ، فبدلا من ان اعوض قصور العدالة فى حالتى واقتص لزوجتى فقط ، وجدت اننى يجب ان اعوض قصور العدالة فى مختلف القضايا واقتص لكل ضحية ، وجدت اننى بدلا من ان اجعل ظلى يقوم بما لا استطيع فعله ، وجدت اننى سأتحد مع ظلى لنقوم بما لا تستطيع ان تقوم به العدالة، لقد قرررت ان اكون ظل للعدالة
    جلس الشخص على الارض وبدا عليه الحزن و هو يكمل حديثه : فى العشر سنوات الماضية قمت بتحقيق العدل بيدى فى اكثر من اربعين قضية ودائما كانت تنتهى التحقيقات الى ان افراد العصابات تخلصوا من بعضهم البعض ، و لم يقود اى خيط الى اننى الفاعل ، ولكن الآن انا اجهدت و اريد منك ان تحل مكانى
    رد عليه الضابط : لماذا انا ؟
    رد الشخص : رأيتك اول مرة منذ ثمان اشهر فى جنازة احد شهداء الشرطة وقد بدا واضحا تأثرك حتى اننى حسبتك صديق مقرب للشهيد ، وعندما استفسرت عنك وجدتك قد خدمت معه لعدة اشهر فقط ، احسست وقتها ان عملك بالشرطة هو كل حياتك مثلى تماما ، فاقتربت للحديث معك فوجدتك تناقش وفى حدة بالغة احد زملائك وتشتكى من تكبيلك بالقوانين ، عندها عدت الى الوراء فقد اكتفيت بما سمعت ، فقد وجدت من يخلفنى
    قمت بعمل تحريات عنك وكانت النتائج تؤكد انك الامثل لتكون ظل العدالة الجديد ، و بعدها القيت فى طريقك القضايا الثلاث الاخيرة حتى تصل الى هنا ونتحدث سويا
    قام الضابط و هو يقول : اننى اتجاوز فى عملى احيانا ، ولكن لا استطيع ان اتحول لمجرم مثلك
    قام الشخص متباطئا وهو يقول : اننى اعلم بالطبع انك لن توافق بمجرد ان اطلب منك ، لذا فقد قررت ان تخوض نفس تجربتى ولنرى ماذا ستفعل وقتها
    لم يفهم الضابط ماذا يقصد الشخص و لكنه انزعج من كلامه
    اكمل الشخص حديثه و هو يقذف بالمسدس للضابط : شىء جميل ان يموت الانسان فى عيد ميلاده
    التقط الضابط مسدسه بيده اليسرى و هو مستغرب من حديث الشخص : ماذا تقصد؟
    رد الشخص و هو يبتسم ابتسامة باردة : ايعقل ان اعرف تاريخ عيد ميلاد زوجتك وانت حتى لا تتذكره
    انزعج الضابط بشدة واقترب مسرعا ناحية الشخص ومشهرا مسدسه تجاهه : ماذا تقول ؟
    ابتسم الشخص مجددا ولم يرد ، اخرج الضابط هاتفه المحمول واتصل بزوجته ، كانت كل لحظة تمر و كأنها دهر ، و انتهت المكالمة بدون ان يجيب احد
    عندما كرر المحاولة وجد الشخص يسأله : ايمكنك ان تلقى نظرة هناك ؟ ، و اشار بيده الى ركن فى الغرفة به بضعة ملابس
    جرى الضابط الى الركن وقلب الملابس ليجد هاتف زوجته مضىء لاستقباله مكالمته ، التفت الضابط ناحية الشخص وهو يصرخ : لماذا ؟
    ارتسمت على وجه الشخص ابتسامة سخرية : لماذا كل هذا التأثر .. انها ضحية مثل مئات من الضحايا ، واريد ان اؤكد لك انها لن تكون الاخيرة ففى اخر القاعة ستجد صورة اخر ضحاياى والتى لم اقتلها بعد ، و اود ان اؤكد لك ايضا اننا سنشترك فى قتلها لتكون اول ضحاياك و لكنها لن تكون الاخيرة
    لم يستطع الضابط سماع كلمة اخرى ، ولم يستطع تمالك اعصابه اكثر من ذلك فضغط الزناد لتستقر رصاصة فى رأس الشخص ويرديه قتيلا
    قام الضابط واتجه الى سيارته ليذهب لتسليم نفسه ، وقبل ان يصل الى السيارة رن هاتفه ورد بدون ان ينظر الى رقم الطالب ، انه صوت زوجته ، اجهش بالبكاء وهو يسألها عما حدث لها ، استغربت الزوجة وطمأنته بأنه لم يحدث لها أى مكروه وأنها تتصل به من المنزل للاطمئنان عليه ، سألها عن هاتفها المحمول فأخبرته انه فى الصيانه وسوف تتسلمه بعد غد
    انهى المكالمة فور ان تذكر اخر كلمات القاتل ، فعاد مسرعا الى المبنى ، بحث عند اول المدخل و وجد مسدس و بعض الاوراق و صورة للقاتل وبطاقته ، وعندها فقط استوعب كلمات القتيل ، (اذن صورته هذه هى صورة آخر ضحاياه وأول ضحاياى) ، وجد ايضا شهادة وفاة لابن القتيل يرجع تاريخها الى عشرة شهور مضت ، لقد اراد القتيل الانتحار ولكنه اراد ان يبقى على ظل العدالة حيا ، و قد وقع على الاختيار كما اخبرنى من قبل
    عاد الى الجثة و وضع المسدس الذى وجده بيد الجثة و اطلق منه رصاصتان فى اتجاه المدخل ، ثم اتصل باحد زملاءه ليخبره بأنه وجد القاتل و تم تبادل اطلاق النار و مات على اثرها القاتل ، اخبره بالمكان ثم اغلق الهاتف و بدأ فى المغادرة ، و عند كل خطوة يخطوها كان الظل يزداد طولا ليمتد من القتيل الى الضابط.

    يوسف محمد

No comments: