حينما تتخطى الاربعين وتتمتع بذاكرة قوية قد يكون الامر مزعجا بعض الشئ
وحينما تكون صغيرا وتبدأ فى فقد الأهل من حولك تبدأ الذكريات تدق رأسك بعنف ، لكن
حينما تفقد خالتك الاصغر يكون الأمر مآسويا فالذكريات ليست فقط بالكثيرة لكنها
تتراءى من حوللك فى كل لحظة.
حينما كنت صغيرا جدا حتى لم تكن تصل الى سن الدراسة وتذهب الى المنزل
الكبير الذى كان يطلق عليه حينها دار وهى بالحق دار كبير منزل فلاحى اصيل قل ان
تجده فى تشوهات القرية المصرية التى حينما تنظر اليها اليوم لا تعرف اذا كانت قرية
ام مدينة ام مسخ مشوه بين الاثنين ، البيت يحتوى على زريبة للحيوانات وله باب كبير
تدق عليه من الخارج بسقاطة حديد ، بخلاف
انه يغلق بهلبين من الخارج تبدو بالنسبة لأى من اطفال الجيل الحالى اوحتى من
تجاوزوا الثلاثين اساطير حقيقية وانت تعيش داخل تلك الاسطورة تصنع من كرسى الحمام سيارة وتقودها وتتحرك بها
ذهابا وايابا كأنك قائد محنك تسمع توجيها الجدة وتعيش مع حنو الخالة الصغيرة كانت
مازالت طالبة معلمات التى لا اعرف اين ذهبت تلك المدارس التى كانت مخصصة لتعليم
اطفال المرحلة الابتدائية لكنها اختفت مع اشياء اخرى كثيرة.
تفطر صباحا كولد على خمس بنات وانت لا تعرف قيمة الولد عن سيدة كبيرة كجدتك
تفطرك باربع بيضات مسلوقين واطعمة فلاحية اخرى لا يعرفها جيل النت من اول القشطة
اللى فى الماجور مرورا بالجبنة القريش التى تصعد فوق البيت لترى سيدة تخض اللبن
امامك وتشرح لك الخالة الصغيرة كيفية صناعة الجبن وفرده على الحصير بعد ذلك!
تذهب فى رحلة الى البحر وحينما تسمع كلمة البحر تتراءى امامك اساطير
الاسماك والجنيات البحرية ، بالاضافة الى تحذيرات الجدة التى لا تنتهى بعدم
الاقتراب من الجسر !!! وهو طريق مرتفع ليحمى القرية من هجمات الفيضان فى زمن لم
تراه ، وتحذيراتها للخالة الصغيرة اوعى الواد والبحر وتتصور انك سوف تقابل وحوش كل
الاساطير التى يراها جيلنا الحالى فى الكارتون لكنك تعيش داخل تلك الغابة وتعبر بك
خالتك فى طريق طويل ملئ بأشجار الموز وترى تلك الفتيات وهم يحملون "الزلع"
فوق رؤسهم مشاهد لا يعرفها الجيل الحالى الا فقط فى الصور المرسومة ويصعب عليك فهم
كيف تحافظ الفتاة على اتزانها وفوق رأسها تلك الجرار المملوءة بالماء ، وتكتشف
حينما تكبر ان ذلك البحر المزعوم ما هو إلا فرع من فروع النيل ولكنك لا تنسى
الاسطورة التى كنت تعيش فيها.
تعجز طوال الوقت عن تدير طلمبة المياه وتكتفى بأن تدورها خالتك وتحاول ان تشرب من المياة المتدفقة!
وحينما تأتى المغربية لا تنسى ابدا تلك الرحلة العجيبة الخاصة بالتقفيل
للحمام اى ان تذهب الى الدار الأخرى وهى دار فقط للحمام تحتوى على عدد من
"الطيارات" اعتقد أن اغلب من سيقرأ هذه المقالة سوف ينتحر لأنه لن يجد
اجابات تلك المصطلحات عند المقدس "جوجل" لكن على ان اشرح ان تلك
"الطيارات" هى ابراج الحمام التى يبيت فيها الحمام ، تستمع بذلك الباب
الذى يفتح بذلك المفتاح الكبير وتدخل وتبدأ عملية التقفيل للحمام فى المغربية وتعلمك
خالتك كيف تفك الخيوط لتقفل على الحمام وتربطها ، تتصور انك تصنع تاريخا ولديك حق
فى ان تجعل الحمام ينام من المغربية!
تستمتع ليلا بأن يأتى لك جدك بعودين قصب مع قطعتى ملبس صغير على شكل زجاجتى
ببيسى تمصهم بنهم وتجلس الخالة لكى تقطع لك عيدان القصب قطع متوسطة الطول ثم تقوم
بتقشير القصب ثم تقطع تلك القطع الى قطع صغيرة تستطيع ان تمصهم قطعة قطعة ، اعتقد
ان اخر شخص فعل ذلك ربما تجاوز الثلاثين بكثير.
تدق الذكريات فأنت احد اخر افراد الاسرة الكبيرة الذى شاهدها ، نفس تدويرة
الوش تجد فى وجهها والدتك وستك معا المرض يأكل ذلك الشباب الذى كنت تعرفه يأكل من
حواديت الليل التى تصنع لك عالما سحريا تتمنى الآن لو لم تكبر الى هذا العمر وتظل
صغيرا تسمع الى تلك الكلمات حتى تنام فوق جدران الفرن الفلاحى الذى كان يأخذ غرفة كاملة، رحمها الله لا ادرى اابكيها ام ابكى نفسى
لأننى كل يوم اشعر اننى افتقد عكاكيز كنت اتوكأ بها لأسير فى هذه الحياة.